فصل: مناسبة الآية لما قبلها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآيات (34- 41):

قوله تعالى: {إِنّ لِلْمُتّقِين عِنْد ربِّهِمْ جنّاتِ النّعِيمِ (34) أفنجْعلُ الْمُسْلِمِين كالْمُجْرِمِين (35) ما لكُمْ كيْف تحْكُمُون (36) أمْ لكُمْ كِتابٌ فِيهِ تدْرُسُون (37) إِنّ لكُمْ فِيهِ لما تخيّرُون (38) أمْ لكُمْ أيْمانٌ عليْنا بالِغةٌ إِلى يوْمِ الْقِيامةِ إِنّ لكُمْ لما تحْكُمُون (39) سلْهُمْ أيُّهُمْ بِذلِك زعِيمٌ (40) أمْ لهُمْ شُركاءُ فلْيأْتُوا بِشُركائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِين (41)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما ذكر ما لأهل الجمود الذين لا يجوزون الممكنات، ذكر أضدادهم فقال مؤكدا لأجل إنكارهم: {إن للمتقين} أي العريقين في صفة التقوى خاصة دون غيرهم ممن لا يتقي، والتقوى: الاحتراز بالوقاء الحامل عليه الخوف من المؤذي، الحامل عليه تجويز الممكنات، قال الملوي: وأصلها أن الفرس الواقي- وهو الموجوع الحافي- لا يضع حافره حتى يرى هل الموضع لين يناسب، وكذا المتقي لا يتحرك ولا يسكن إلا على بصيرة من رضا الله بذلك، فلا يفعل أحد منهم شيئا من تلك الآثار الخبيثة التي تقدمت للمكذبين، فحازوا الكمال بصلاح القوة العملية الناشئ عن صلاح القوة العلمية، وزاد في الترغيب إشارة إلى جنة القلب وبسط الروح بقوله: {عند ربهم} أي المحسن إليهم في موضع ندم أولئك وخيبة آمالهم، فإن تقريبهم دل على رضاه سبحانه، ورضا صاحب الدار مطلوب قبل نظر الدار، ولما أشار إلى جنة القلب أتبعها جنة القالب فقال تعالى: {جنات} جمع جنة وهي لغة البستان الجامع، وفي عرف الشرع مكان اجتمع فيه جميع السرور وانتفى منه جميع الشرور {النعيم} وهو الخالص من المكدر والمشوش والمنغص، لا شيء فيها غيره أصلا- بما أفادته الإضافة.
ولما كان عدم إيراث كل من الفريقين الدار التي تقدم وصفها تسوية بين المحسن والمسيء، وكان ذلك لا يليق بحكيم أن يفعله، وجب إنكاره لتحقق أن ما أخبر به سبحانه لا يكون إلا كذلك لاسيما وقد كان الكفار يقولون: إنهم كالمسلمين أو أحسن حالا منهم، وذلك أنه إن كان لا بعث، كما كانوا يظنون، فقد استووا فيما بعده مع ما فضلوهم به في الدنيا من اتباع الأهواء والظفر باللذائذ، وإن كان ثم بعث فقد كانوا يقولون لشبهة دعتهم إليها شهوتهم: أما نكون على تقديره أحسن حالا منكم وآثر عند الله في حسن العيش كما نحن في هذه الدار لأنه ما بسط لنا في هذه الدار إلا ونحن عنده أفضل منكم، فقال تعالى منكرا ومكذبا لذلك غاية إنكار والتكذيب عائبا التحكم بالجهل غاية العيب نافيا للمساواة ليكون انتقاما هو أعلى من باب الأولى مسببا عما تقديره: ولا يكون لغير المتقين ذلك: {أفنجعل المسلمين} أي الذين هم عريقون في الانقياد لأوامرنا والصلة لما أمرنا بوصله طلبا لمرضاتنا فلا اختيار لهم معنا في نفس ولا غيرها لحسن جبلاتهم {كالمجرمين} أي الراسخين في قطع ما أمرنا به أن يوصل وأنتم لا تقرون مثل ذلك، بل من عاندكم نوع معاندة قاطعتموه ولو وصل الأمر إلى القتل.
ولما كشف هذا الدليل الشبه ورفع الستار، فأوصل إلى أعظم من ضوء النهار، لفت القول إليهم بالخطاب لفت المغضب عند العتاب، فقال معجبا منهم منبها على ما هم فيه من اعوجاج الفطر وفساد الفكر منكرا عليهم غاية الإنكار: {ما لكم} أي أيّ شيء يحصل لكم من هذه الأحكام الجائرة البعيدة عن الصواب.
ولما نبههم على أنه ليس لهم في مثل هذه الأحكام شيء يمكن أن يكون نافعا، وكان العاقل إذا علم أن شيئا من الأشياء لا نفع فيه بعد منه، أنكر عليهم ثالثا حال أحكامهم هذه لأن نفي أحوالها أشد لنفيها كما تقدم في {كيف تكفرون} في [البقرة: 28] فقال: {كيف تحكمون} أي أيّ عقل دعاكم إلى هذا الحكم الذي يتضمن التسوية من السيد بين المحسن من عبيده والمسيء.
ولما كان الحكم لا يمكن وجوده إلا مكيفا بكيفية، وكان سبحانه وتعالى قد نفى حكمهم هذا بإنكار جميع كيفياته التي يمكن أن يصح معها، وكان الحكم الصحيح لابد وأن يكون مستندا إلى عقل أو نقل، زاد بطلان حكمهم وضوحا بنفي الأمرين معا، فقال عاطفا على ما تقديره: ألكم دليل من العقل إليه تلجؤون: {أم لكم كتاب} أي سماوي معروف أنه من عند الله خاص بكم {فيه} أي لا في غيره من أساطير الأولين وزبر الممحوقين {تدرسون} أي تقرؤون قراءة أتقنتم مخالطتها أو أنعمتم فهمه بسببها.
ولما ذكر الدرس ذكر المدروس فقال تعالى: {إن لكم} أي خاصة على وجه التأكيد الذي لا رخصة في تركه {فيه} أي الكتاب لتكونوا في غاية الوثوق به، لا في غيره مما لا وثوق لكم به {لما تخيرون} أي تبالغون في انتقائه وأخذ خياره، وكسر الهمزة وكان حقها الفتح لولا اللام لأن ما بعدها هو المدروس، ويجوز أن تكون الجملة حكاية للمدروس وأن تكون استئنافية.
ولما نفى دليل العقل والنقل مع التعجب منهم والتهكم بهم، وكان قد بقي أن الإنسان ربما عاهد غيره على شيء فيلزمه الوفاء به وإن كان خارجا عما يدعو إليه العقل والنقل، نفى ذلك بقوله: {أم لكم أيمان} أي غليظة جدا {علينا} قد حملتمونا إياها {بالغة} أي لأجل عظمها إلى نهاية رتب التأكيد بحيث يكون بلوغ غيرها ما يقصد بالنسبة إلى بلوغها ذلك عدما أي أن بلوغها هو البلوغ لا غيره، أو ثباتها منته {إلى يوم القيامة} لا يمكن الخروج عن عهدتها إلا في ذلك اليوم ليحتاج لأجلها إلى إكرامكم في الدارين.
ولما ذكر ذلك القسم بالأيمان ذكر المقسم عليه فقال: {إن لكم} أي خاصة دون المسلمين {لما تحكمون} أي تفعلونه فعل الحاكم الذي يلزم قوله لعلو أمره على وجه التأكيد الذي لا مندوحة عنه فتحكمون لأنفسكم بما تريدون من الخير.
ولما عجب منهم وتهكم بهم، ذيل ذلك بتهكم أعلى منه يكشف عوارهم غاية الكشف وينزل بهم أشد الحتف، فقال مخوفا لهم بالإعراض: {سلهم} أي يا أيها الرسول الذي محت دلائله بقوة أنوارها الأنوار.
ولما كان السؤال سببا لحصول العلم علقت، (سل) على مطلوبها الثاني وكان حقه أن يعدى بعن فقال: {أيهم بذلك} أي الأمر العظيم من المعاهدة والدليل النقلي والعقلي {زعيم} أي كفيل وضامن أو سيد أو رئيس أو متكلم بحق أو باطل لتلزمه في ادعائه صحة ذلك ما تدعه به ضحكة للعباد، وأعجوبة للحاضر منهم والباد، فلم يجسر لما تعلمون من حقية هذا القرآن وما لأقوالهم كلها من العراقة في البطلان أحد منهم على شدة عداوتهم ومحبتهم للمغالبة وشماختهم أن يبرز لادعاء ذلك، ولما نفى أن يكون لهم منه سبحانه في تسويتهم بالمسلمين دليل عقلي أو نقلي أو عهد وثيق على هذا الترتيب المحكم والمنهاج الأقوم، أتبعه ما يكون من عند غيره إن كان ثم غير على ما ادعوا فقال: {أم لهم شركاء} أي شرعوا لهم من الدين أمرا ووعدوهم بشيء أقاموا عليه من الأدلة ما أقمنا لنبينا صلى الله عليه وسلم {فليأتوا بشركائهم} أي بأقوالهم وأفعالهم كما أتينا نحن في نصر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من الأمرين معا بما لا شبهة فيه، وسجل عليهم بالكتاب ملهبا مهيجا بما يحرق به أكبادهم ولا يقدرون على دفعه بوجه، فيكون ذلك أعظم دليل على إبطالهم: فقال: {إن كانوا} أي جبلة وطبعا {صادقين} أي عريقين في هذا الوصف كما يدعونه. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

ثم إنه تعالى ذكر بعد ذلك أحوال السعداء، فقال: {إِنّ لِلْمُتّقِين عِنْد ربِّهِمْ جنّاتِ النّعِيمِ (34)}
{عِند ربّهِمْ} أي في الآخرة {جنات النعيم} أي جنات ليس لهم فيه إلا التنعم الخالص لا يشوبه ما ينغصه، كما يشوب جنات الدنيا، قال مقاتل: لما نزلت هذه الآية قال كفار مكة للمسلمين: إن الله تعالى فضلنا عليكم في الدنيا، فلابد وأن يفضلنا عليكم في الآخرة، فإن لم يحصل التفضيل، فلا أقل من المساواة.
ثم إن الله تعالى أجاب عن هذا الكلام بقوله: {أفنجْعلُ الْمُسْلِمِين كالْمُجْرِمِين (35) ما لكُمْ كيْف تحْكُمُون (36)}
ومعنى الكلام أن التسوية بين المطيع والعاصي غير جائزة، وفي الآية مسائل.
المسألة الأولى:
قال القاضي: فيه دليل واضح على أن وصف الإنسان بأنه مسلم ومجرم كالمتنافي، فالفاسق لما كان مجرما وجب أن لا يكون مسلما والجواب: أنه تعالى أنكر جعل المسلم مثلا للمجرم، ولا شك أنه ليس المراد إنكار المماثلة في جميع الأمور، فإنهما يتماثلان في الجوهرية والجسمية والحدوث والحيوانية، وغيرها من الأمور الكثيرة، بل المراد إنكار استوائهما في الإسلام والجرم، أو في آثار هذين الأمرين، أو المراد إنكار أن يكون أثر إسلام المسلم مساويا لأثر جرم المجرم عند الله، وهذا مسلم لا نزاع فيه، فمن أين يدل على أن الشخص الواحد يمتنع أن يجتمع فيه كونه مسلما ومجرما؟.
المسألة الثانية:
قال الجبائي: دلت الآية على أن المجرم لا يكون ألبتة في الجنة، لأنه تعالى أنكر حصول التسوية بينهما، ولو حصلا في الجنة، لحصلت التسوية بينهما في الثواب، بل لعله يكون ثواب المجرم أزيد من ثواب المسلم إذا كان المجرم أطول عمرا من المسلم، وكانت طاعاته غير محبطة الجواب: هذا ضعيف لأنا بينا أن الآية لا تمنع من حصول التسوية في شيء أصلا بل تمنع من حصول التسوية في درجة الثواب، ولعلهما يستويان فيه بل يكون ثواب المسلم الذي لم يعص أكثر من ثواب من عصى، على أنا نقول: لم لا يجوز أن يكون المراد من المجرمين هم الكفار الذين حكى الله عنهم هذه الواقعة وذلك لأن حمل الجمع المحلى بالألف واللام على المعهود السابق مشهور في اللغة والعرف.
المسألة الثالثة:
أن الله تعالى استنكر التسوية بين المسلمين والمجرمين في الثواب، فدل هذا على أنه يقبح عقلا ما يحكى عن أهل السنة أنه يجوز أن يدخل الكفار في الجنة والمطيعين في النار والجواب: أنه تعالى استنكر ذلك بحكم الفضل والإحسان، لا أن ذلك بسبب أن أحدا يستحق عليه شيئا.
واعلم أنه تعالى لما قال على سبيل الاستبعاد: {أفنجْعلُ المسلمين كالمجرمين} قرر هذا الاستبعاد بأن قال على طريقة الالتفات: {ما لكُمْ كيْف تحْكُمُون} هذا الحكم المعوج ثم قال: {أمْ لكُمْ كِتابٌ فِيهِ تدْرُسُون (37) إِنّ لكُمْ فِيهِ لما تخيّرُون (38)}
وهو كقوله تعالى: {أمْ لكُمْ سلطان مُّبِينٌ فأْتُواْ بكتابكم} [الصافات: 156] والأصل تدرسون أن لكم ما تتخيرون بفتح أن لأنه مدرس، فلما جاءت اللام كسرت، وتخير الشيء واختاره، أي أخذ خيره ونحوه تنخله وانتخله إذا أخذ منخوله.
{أمْ لكُمْ أيْمانٌ عليْنا بالِغةٌ إِلى يوْمِ الْقِيامةِ إِنّ لكُمْ لما تحْكُمُون (39)} وفيه مسألتان:
المسألة الأولى:
يقال: لفلان على يمين بكذا إذا ضمنته منه وخلقت له على الوقاء به يعني أم ضمنا منكم وأقسمنا لكم بأيمان مغلظة متناهية في التوكيد.
فإن قيل: إلى في قوله: {إلى يوْمِ القيامة} بم يتعلق؟ قلنا: فيه وجهان الأول: أنها متعلقة بقوله: {بالغة} أي هذه الأيمان في قوتها وكمالها بحيث تبلغ إلى يوم القيامة والثاني: أن يكون التقدير.
أيمان ثابتة إلى يوم القيامة.
ويكون معنى بالغة مؤكدة كما تقول جيدة بالغة، وكل شيء متناه في الصحة والجودة فهو بالغ، وأما قوله: {إِنّ لكُمْ لما تحْكُمُون} فهو جواب القسم لأن معنى: {أمْ لكُمْ أيمان عليْنا} أم أقسمنا لكم.
المسألة الثانية:
قرأ الحسن بالغة بالنصب وهو نصب على الحال من الضمير في الظرف.
ثم قال للرسول عليه الصلاة والسلام:
{سلْهُمْ أيُّهُمْ بِذلِك زعِيمٌ (40)}
والمعنى أيهم بذلك الحكم زعيم، أي قائم به وبالاستدلال على صحته، كما يقوم زعيم القوم بإصلاح أمورهم.
ثم قال: {أمْ لهُمْ شُركاءُ فلْيأْتُوا بِشُركائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِين (41)}
وفي تفسيره وجهان الأول: المعنى أم لهم أشياء يعتقدون أنها شركاء الله فيعتقدون أن أولئك الشركاء يجعلونهم في الآخرة مثل المؤمنين في الثواب والخلاص من العقاب، وإنما أضاف الشركاء إليهم لأنهم جعلوها شركاء لله وهذا كقوله: {هلْ مِن شُركائِكُمْ مّن يفْعلُ مِن ذلِكُمْ مّن شيْء} [الروم: 40]، الوجه الثاني: في المعنى أم لهم ناس يشاركونهم في هذا المذهب وهو التسوية بين المسلمين والمجرمين، فليأتوا بهم إن كانوا صادقين في دعواهم، والمراد بيان أنه كما ليس لهم دليل عقلي في إثبات هذا المذهب، ولا دليل نقلي وهو كتاب يدرسونه، فليس لهم من يوافقهم من العقلاء على هذا القول، وذلك يدل على أنه باطل من كل الوجوه. اهـ.